سورة المائدة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


قلت: {للذين هادوا}: متعلق بيحكم، أو بأنزلنا، أو بهدى ونور، و{الربانيون}: عطف على {النبيون}، وهم العباد والزهاد منهم، والأحبار: علماؤهم، جمع حبر بكسر الحاء وفتحها، وهو أشهر استعمالاً؛ للفرق بينه وبين المداد، و{بما استحفظوا}: سببية متعلق بيحكم، أو بدل من {بها} والعائد إلى ما محذوف، أي: استحفظوه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى} أي: ما يهدي إلى إصلاح الظواهر من النواهي والأوامر، و{نور} تستنير به السرائر، وتشرق به القلوب والضمائر، من الاعتقادات الصحيحة والقعائد الراجحة، والعلوم الدينية والأسرار الربانية. {يحكم بها النبيون} الذين أتوا بعد موسى عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهم {الذين أسلموا} إي: انقادوا بكليتهم إلى ربهم، ولم تبق بقية لغير محبوبهم، وفيه تنويه بشأن الإسلام وأهله، وتعريض باليهود؛ فإنهم بمعزل عن دين الأنبياء واقتفاء هديهم، حيث لم يتصفوا به، يحكم بها {للذين هادوا} وعليهم، وهم اليهود، {و} يحكم بها أيضًا {الربانيون والأحبار} أي: زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم، {بما استُحفظوا من كتاب الله} أي: بسبب أمر الله تعالى لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتخريف. {وكانوا عليه شهداء} أي: رقباء، فلا يتركون من يُغيرها أو يحرفها، ولما طال العهد عليهم حرفوا وغيروا، بخلاف كتابنا، حيث تولى حفظه الحق ربنا، فلا يزال محفوظًا لفظًا ومعنى إلى قيام الساعة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الّذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]. فللَّه الحمد.
ثم خاطب الحكام، فقال: {فلا تخشوا الناس واخشون} أي: فلا تداهنوا في حكوماتكم خشية ظالم أو مراقبة كبير، فكل كبير في جانب الحق صغير {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً} أي: لا تستبدلوا بالحكم بالحق ثمنًا قليلاً؛ كالرشوة والجاه، {ومن لم يحكم بما أنزل الله} مستهينًا به ومنكرًا له {فأولئك هم الكافرون}؛ لاستهانتهم به.
قال ابن عباس: نزلت الثلاثة في اليهود، الكافرون والظالمون والفاسقون، وقد رُوِي في هذا أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالت جماعة: هي عامة، فكل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية، وقال الشافعي: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى، وهو أنسب لسياق الكلام، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد وصف الله تعالى القرآن بأعظم مما وصف به التوراة. قال تعالى: {قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِنّ رَّبِكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174]، فجعل التوراة ظرفًا للهداية والنور، وجعل القرآن نفس النور والهداية. وربانيو هذه الأمة: أولياؤها العارفون بالله، الذين يربون الناس ويرشدونهم إلى معرفة الشهود والعيان، وأحبارها: علماؤها.
وقال الورتجبي: الرباني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب، واستقام في شهود جلاله وجماله، صار متصفًا بصفات الله جل جلاله، حاملاً أنوار ذاته، فإذا فنى عن نفسه وبقي بربه، صار ربانيًا، مثل الحديد في النار، إذا لم يكن في النار كان مستعدًا لقبول النار، فإذا وصل إلى النار واحمر، صار ناريًّا، هكذا شأن العارف، فإذا كان منورًا بتجلي الرب، صار ربانيًا نورانيًّا ملكوتيًّا جبروتيًّا، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب، ثم قال: العارف مخاطب من الله في جمع أنفاسه، وحركاته، ينزل على قلبه من الله وحي الإلهام، وربما يخاطبه بنفسه، ويكلمه بكلامه، ويحدثه بحديثه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنَّ في أُمَتي محدَثين أو مُكَلَّمين وإِنَّ عُمَرِ مِنهُم». اهـ.


قلت: من نصب الجميع: فَعَطَفٌ على النفس، و{قصاص}: خبر إن، ومن رفع العين: فيحتمل أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء، و{قصاص}: خبر، من عطف الجمل، أو يكون عطفًا على موضع النفس؛ لأن المعنى: قلنا لهم: النفس بالنفس، أو على الضمير المستكن في الخبر، ومن رفع الجروح فقط، ما تقدم في العين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وكتبنا} على بني إسرائيل، أي: فرضنا وألزمنا عليهم في التوراة {أن النفس} تقتل بالنفس في القتل العمد إن كان المقتول مسلمًا حرًا، فلا يقتل مسلم بكافر إلا إن قتله غيلة، ولا حر بعبد، للحديث، {والعينَ} تُفقأ {بالعين}، {والأنفَ} تُجدع {بالأنفِ}، {والأُذنَ} تُصلم {بالأُذنِ}، {والسِّن} تُقلع {بالسن}، {والجروح قصاص}؛ يقتص من الجارح بمثل ما فَعل، إلا ما يخاف منه كالمأمومة، والجائفة، وكسر الفخذ، فيعطي الدية، {فمن تصدق به} أي: بالدم، بأن عَفى عن الجارح أو القاتل فلم يقتص، {فهو كفّارة له} أي للمقتول، يغفر الله ذنوبه ويعظم أجره، أو كفارة للقاتل أو الجارح، يعفو الله بذلك عن القاتل؛ لأن صاحب الحق قد عفا عنه، أو كفارة للعافي؛ لأنه مسامح في حقه، أو من تصدق بنفسه ومكنها من القصاص فهو كفارة له، اقتص منه أو عُفي عنه.
وفيه دليل على أن الحدود مكفرة لا زواجر، وزعم ابن العربي: أن المقتول يُطالب يوم القيامة، ولو قتل في الدنيا قصاصًا؛ لأنه لم يتحصل للمقتول من قتل قاتله شيء، وأن القصاص إنما هو ردع، وأجيب بمنع أنه لم يتحصل له شيء، بل حصلت له الشهادة وتكفير لذنوبة، كما في الحديث: «السيف محاء للخطايا» ولو كان القصاص للردع خاصة لم يشرع العفو، قاله ابن حجر، وفي حديث البخاري: «من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، وإن ستره الله فهو في المشيئة».
{ومن لم يحكم بما أنزل الله} من القصاص وغيره {فأولئك هم الظالمون}؛ المتجاوزون حدود الله، وما كتب الله على بني إسرائيل هو أيضًا مكتوب علينا، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولا ناسخ هنا، بل قررته السنة والإجماع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: القصاص مشروع وهو من حقوق النفس؛ لأنها تطلبه تشفيًا وغيظًا، والعفو مطلوب ومرغب فيه، وهو من حقوق الله، هو طالبه منك، وأين ما تطلبه لنفسك مما هو طالبه منك؟ ومن شأن الصوفية الأخذ بالعزائم، واتباع أحسن المذاهب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُّمَر: 18]، ومن شأنهم أيضًا: الغيبة عن حظوظ النفس، ولذلك قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح)، وقالو أيضًا: (الصوفي كالأرض، يُحرح عليها كل قبيح، وهي تُنبت كلَّ مليح)، ومن أوكد الأمور عندهم عدم الانتصار لأنفسهم. وبالله التوفيق.


قلت: {قفينا}: اتبعنا، مشتق من القفا؛ كأن مجيء عيسى كان في قفا مجيء النبيين وخلفهم، وحذف المفعول الأول، أي: أتبعناهم، و{بعيسى} مفعول ثاني، وجملة: {فيه هدى ونور}: حال من {الإنجيل}، و{مصدقًا}: عطف عليه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: وأتبعنا النبيين المتقدمين وجئنا على إثرهم {بعيسى ابن مريم مصدقًا لما بين يديه} أي: ما تقدم أمامه {من التوراة} وتصديقه للتوراة؛ إما لكونه مذكورًا فيها ثم ظهر، أو بموافقة ما جاء به من التوحيد والأحكامِ لما فيها، أو لكونه صدَّق بها وعمل بما فيها.
{وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور}؛ فالهدى لإصلاح الظواهر بالشرائع، والنور لإصلاح الضمائر بالعقائد الصحيحة والحقائق الربانية، {ومصدقًا لما بين يديه من التوراة} بتقرير أحكامها، والشهادة على صحتها، {وهدى وموعظة للمتقين} أي: وإرشادًا وتذكيرًا للمتقين؛ لأنهم هم الذين ينفع فيهم الموعظة والتذكير، دون المنهمكين في الغفلة، قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يسمعون.
ثم أمر الله أهل الإنجيل بالحكم بما فيه، فقال: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} من الأحكام، وقرأ حمزة: {وليحكم} بلام الجر؛ أي: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل بما فيه، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}؛ الخارجون عن طاعة الحق. قال البيضاوي: والآية تدل على أن الإنجيل مشتملة على الأحكام، وأن اليهودية منسوخة ببعث عيسى عليه السلام، وأنه كان مستقلاً بالشرع، وحمَلها على: وليحكموا بما أنزل الله، فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر. اهـ.
الإشارة: قد جمع الله في هذه الأمة المحمدية ما افترق في غيرها في الأزمنة المتقدمة، فعلماؤها وأولياؤها كالأنبياء والرّسل، كلما مات عالم أو ولي قفاه الله بآخر، أما العلماء فأمرهم متفق وحالهم متقارب، فمدار أمرهم على تحصيل العلوم الرسمية والأعمال الظاهرية، وأما الأولياء رضي الله عنهم، فأحوالهم مختلفة، فمنهم من يكون على قدم نوح عليه السلام في القوة والشدة، ومنهم من يكون على قدم إبراهيم عليه السلام في الحنانة والشفقة. ومنهم من يكون على قدم موسى عليه السلام في القوة أيضًا، ومنهم من يكون على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع إلى الله تعالى، ومنهم من يكون على قدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعظمهم لجمعه ما افترق في غيره، وكل واحد يؤتيه الله نورًا في الباطن يجذب به القلوب إلى الحضرة، وهدى في الظاهر يصلح به الظواهر في الشريعة. والله تعالى أعلم.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12